حين يُهدَر الإبداع تحت وطأة السطو الرقمي

في عالمنا اليوم، حيث تحولت المنصات الرقمية إلى منصاتٍ إعلامية شاملة وواسعة الانتشار، تتصاعد ظاهرة السرقات الأدبية والمحتوى المسلوب، لتصبح أزمة حقيقية تهدد مستقبل الإعلام الجديد. إنها أزمة أخلاقية وقانونية، لكنها قبل كل شيء أزمة قيم تهز صميم الإبداع وتضع تساؤلات حول مصير الفكرة الحرة في فضاء مفتوح يعج بالمنافسة والتسابق على جذب الانتباه.
الإعلام الجديد: سيف ذو حدين
الإعلام الجديد فتح الأبواب أمام الملايين ليصبحوا صناع محتوى، ومنح كل صوتٍ مساحةً ليُسمع. لكنه في الوقت ذاته، أتاح مساحة واسعة للتلاعب، حيث باتت حدود الملكية الفكرية تُطمس في خضم التدفق الهائل للمعلومات. مع كل منشور أو تغريدة أو فيديو جديد، ينشأ خطر حقيقي يتمثل في أن يُسرق هذا الجهد أو يُعاد تقديمه دون أي تقدير لصاحبه الأصلي.
السرقات الأدبية: أكثر من مجرد سرقة
عندما نتحدث عن السرقات الأدبية في الإعلام الجديد، نحن لا نتحدث عن سرقة كلمات فقط. نحن نتحدث عن سرقة الأحلام، عن اقتباس مجهود فكري أو إبداعي لشخص آخر ونسبه زورًا إلى النفس. هذه السرقات تتنوع بين نسخ النصوص، استخدام الصور والفيديوهات دون تصريح، تقليد الأفكار وإعادة صياغتها، وحتى استغلال التصميمات والمقطوعات الموسيقية في المحتوى دون إذن مسبق.
تخيل كاتبًا أفنى ساعات طويلة في صياغة مقال يحمل رؤية خاصة، أو مصورًا قضى أيامًا في التقاط صورة تنبض بالمعنى، فقط ليجد جهوده تُسرق وتُعرض تحت اسم آخر. إنها لحظة مؤلمة تعكس انعدام التقدير والإحساس بأهمية الجهد الإبداعي.
لماذا تفاقمت المشكلة في الإعلام الرقمي؟
هناك أسباب عديدة جعلت السرقات الأدبية في الإعلام الجديد مشكلة شائعة ومتنامية. العالم الرقمي بحد ذاته يحمل طبيعة مفتوحة، مما يُغري البعض بالتعامل مع المحتوى وكأنه ملكية عامة. تسارع الأحداث والرغبة في السبق الإعلامي يدفع البعض إلى استسهال نسخ المحتوى بدلًا من إنتاج محتوى جديد.
في بعض الأحيان، يكون العامل التكنولوجي أحد مسببات المشكلة. فمع وجود أدوات مثل النسخ واللصق والبرمجيات التي تُعيد صياغة النصوص بشكل آلي، بات من السهل جدًا إعادة تقديم المحتوى بطريقة غير أخلاقية. وعلى الجانب الآخر، نجد ضعف القوانين الرادعة في بعض البلدان، أو صعوبة تتبع الانتهاكات على منصات رقمية مترامية الأطراف، مما يزيد من تفاقم الظاهرة.
تأثير سرقات المحتوى على الإعلام والمجتمع
السرقات الأدبية ليست مجرد انتهاك حقوق، بل هي خيانة للمجتمع الإعلامي ككل. عندما يُسرق المحتوى، يتراجع الابتكار، ويصبح الإعلام أداة سطحية لا تملك العمق الذي يميزها. الثقة بين الجمهور والمحتوى الرقمي تتلاشى تدريجيًا، حيث يبدأ المتلقي في التشكيك في مصداقية ما يقرأ أو يشاهد.
كما أن هذه السرقات تُضعف روح التنافس الشريف، وتدفع بالمبدعين إلى الإحباط، فهم يرون جهدهم يُنهب دون أدنى تقدير. ومع الوقت، يتحول الإعلام إلى مساحة مليئة بالمحتوى المكرر والسطحي، مما يُفقده دوره التنويري والتثقيفي.
كيف نواجه السرقات الأدبية في الإعلام الجديد؟
إن التصدي لهذه الظاهرة يتطلب جهدًا مشتركًا بين الأفراد والمؤسسات والحكومات. هناك حاجة ماسة إلى ترسيخ ثقافة احترام الإبداع وحقوق الملكية الفكرية من خلال التعليم والتوعية. يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تلعب دورًا رياديًا في تبني معايير صارمة تحكم إنتاج المحتوى ونشره.
التكنولوجيا نفسها يمكن أن تكون جزءًا من الحل. يمكن تطوير أدوات ذكية قادرة على الكشف عن الانتهاكات، سواء في النصوص أو الصور أو الفيديوهات. كما يمكن تشجيع المنصات الرقمية الكبرى مثل “يوتيوب” و”فيسبوك” على تبني سياسات أكثر صرامة لحماية حقوق المبدعين.
في النهاية، الأخلاقيات هي الأساس. إذا لم نزرع قيم الأمانة والإبداع في نفوس صناع المحتوى والمجتمع ككل، فإن كل الجهود القانونية والتقنية لن تكون كافية. علينا أن نعيد الاعتبار للجهد البشري، وأن ندرك أن كل فكرة تحمل وراءها قصة وتاريخًا لا يمكن سرقتهما دون أن نجرح جوهر الإنسانية.
ختامًا: دعوة لحماية الإبداع
الإعلام الجديد هو ساحة واسعة لا حدود لها، لكنه لن يكون منصة للحقيقة والإبداع إذا ظل مرتعًا للسرقات. علينا أن نتحد جميعًا – كأفراد ومؤسسات ومجتمع – للدفاع عن حقوق المبدعين وصيانة المحتوى من الانتهاكات. فحماية الإبداع ليست مجرد واجب، بل هي مسؤولية أخلاقية تعكس احترامنا للجهد الإنساني وتقديرنا للقيمة الحقيقية للفكرة.
اكتشاف المزيد من عارف عمر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

